عبد الدائم السلامي
أثار نشر قصّة "عربة الدرجة الممتازة" للكاتب التونسى إبراهيم الدرغوثي، مع بعض التحريف الطّفيف، فى صحيفة عربية تصدر بلندن يوم 3 سبتمبر 2008 ممضاة باسم الكاتب التونسيّ حسونة المصباحى بعنوان " بسبب تلك البنت... على الأرجح" إشكالاتٍ عديدةً تجاوزت فى تأثيرها شخصَيْ الدرغوثى والمصباحى لتطال ساحتنا الثقافية المحليّة والعربية، ولإبداء رأينا فى هذه المسألة، سننطلق من المُعطى القائل إنّ "الحقيقة توجد حيث لا يوجد الناس"، باعتبار أنّ أيّ سلوك بشريّ تحكمه أشراطٌ من العقل وأخرى من العاطفة. ولمّا كان مطلب الحقيقة غايةَ مقالتنا هذه، فإنّا سنبحث عن "هذه الحقيقة" فى اللغة لكونها مُنْجزًا بالفعل لا يمكن أن يُحوَّرَ فى محمولاته القضويّة إلاّ عبر التأويل. ولكنّنا سنجعل تاويلَنا للغة محكومًا بالعقل وبمنطِقِ اللغة ذاتِها حتى نمنع أهواءَنا من الانزياح بنا صوب مناصرة هذا الشخص أو ذاك، ونضمن بعضًا من الموضوعية لِمَا سنخلص إليه من نتائج.
فى حقيقة الحيثيات
هتف إلينا الكاتب إبراهيم الدرغوثى ظهرَ يوم الثانى عشر من أكتوبر يعلمنا بـ "سَطوِ" المصباحى على قصّة له ونشرها بالصحيفة المذكورة أعلاه، ولمّا طلبنا إليه مزيد التوضيح، أرسل إلينا رسالة ألكترونية على بريدنا الخاص فيها مرفقات موسومة بـ "سطو المصباحى على قصة الدرغوثي"، ولمّا اطّلعنا على فحوى الرسالة تريّثنا قليلاً حتى نستجليَ ما حفَّ بهذه القضية من ملابسات. ولمّا اتصلنا بحسونة المصباحى أعلمنا بالآتى قائلاً: "هاتفنى شخصٌ صباح الأحد 12 أكتوبر 2008 يعلمنى بأنّ أحد المغاربة أعلمه هاتفيًّا بوجود سرقة لقصة الدرغوثى قام بها حسونة المصباحي، فلم آخذ الأمر مأخذ الجدّ على اعتبار أنّى رأيتُ العمليةَ لا تعدو أن تكون "مقلبًا" من مقالب الأصدقاء، لكنْ لمّا هاتفنى صحافيّ تونسى فى نفس الغرض، تأكّدت من وجود أمرٍ مّا، وسرعان ما اتصلتُ بإبراهيم الدرغوثى وأعلمته بفحوى ما بلغنى من أخبار، فأجابنى الدرغوثى بلفظه: يا سى حسونة، لعنة الله على مَنْ فعل هذا، أنت كبيرٌ يا حسونة، وأنا أنزّهُك عن مثل هذه الأفعال، نحن إخوة، وستقرّب بيننا هذه الحادثة" فانشرح صدرى لتفهّم الدرغوثى واتصلت على الفور بالصحفى بالصحيفة التى نشرت القصّة وسألته كيف تنشر شيئًا باسمى دون التثبّت منه والحال أنّى أن صحيفتكم أجرت معى لقاءً بطنجة خلال تأبين الشاعر محمود درويش ولم أمدها بأيّ نتاج للنشر، فردّ بقوله إنّه عاد من فترة راحة ولم يتثبّت من مصدر القصّة، وهو سيتكفّل بالاتصال بالدرغوثي. وفعلاً اتصل بالدرغوثى لمدة 20 دقيقة وأعلمنى بعدها بأنّ الدرغوثى كان متفهِّمًا جدّا للأمر وأنّ القضيّة انتهتْ، وهو سينشر مقالة فى الغرض بنفسِ الصحيفة لشرح الملابسات. ولكن ما راعنى إلاّ والسيد الدرغوثى يواصل نشر خبر السرقة فى أكثر من موقع إعلاميّ ورقيّ وألكترونيّ ويتقبّل "تضامن" الكتّاب معه، ولم يجرؤ على كتابة ردٍّ ينزّه فيه شخصى من انتحال قصّته، لا بل أغلق هاتفَه، وراح يقول للناس بأنّه يدافع عن قصّته ولا يعنيه أمري".
مناخات فكريّة متباينة
إنّ المطّلع على كتابات الدرغوثى القصصيّة والروائيّة "ونحن نشتغل على إحداها الآن ضمن بحث أكاديميّ" يكتشف بيُسرٍ تباعد مناخاته الإبداعية عن مناخات فكر الروائى حسونة المصباحي، فإذا كانت كتابات الدرغوثى التى قرأنا تنهل، فى اعتقادنا، من الماضى فى شيءٍ من التأصيل للموروث الفكريّ والحضاريّ من خلال الاشتغال على تيمات سرديّة غرائبيّة فنطاستيكيّة لا تتجاوز المعيش صوب الممكن، فإنّ كتابات المصباحى تنحو صوب الواقعيّ الحداثيِّ، إذْ هى تنطلق من الواقع المرجعيّ فى راهنيته لتحلّله فى تفاصيله الصغيرة وتنخل شوائبَه بغية نحت كيانات تمتح من المعيش صفاتِها وأحوالَها ومشاغلَها. ومن ثمّة، فإنّ اللقيا بين الكاتِبين تكمن فقط فى الجانب الفنّى القائم على التجريب فى بناء الحكايةِ وشخصياتِها. وهو أمرٌ يجعلنا نميلُ إلى القول فى استنتاج أوّلَ إنّ كتابة الدرغوثى لا يمكن أن تُفيد كاتِبًا مثل حسونة المصباحى حتى من حيث التناصُّ.
بحثًا عن الحقيقة... فى اللغة
* فى الفرق الشكلى بين القصَّتيْن
إنّ إحصاءً بسيطًا لعدد ألفاظ قصة الدرغوثى الأصلية تتضمّن 1119 لفظةً وتتضمن القصّة المنشورة بالقدس 1128 لفظةً ما يعنى أنّ الفارق العدديّ فى الألفاظ بين القصّتيْن هو 9 وهو ما يوحى بتقارب القصّتيْن من حيث الحجمُ، كما أنّ عدد الألفاظ المُدخَلة على قصّة الدرغوثى هو خمسون لفظًا هى "طقس الحال ساحة المحطّة فى طنجة تعجّ بالمسافرين غادين رائحين. كالديناصو رالخارج من ذاكرة بالتى شورت أغانى مغربيّة فاحشة هى خليط من العربيّة والأمازيغيّة هكذا تعلّمت فى ألمانيا "كانت صديقتى أنّا تقول لى لا تركب مع الغوغاء". أدفع الباب بحذر وأدلف إلى الصّالون. وبالرّوايات الجميلة وبأنسى الحاج وأمجد ناصر وحسن نجمي"، ما يعنى أنّ نسبة التحريف فى القصة الأصل بلغت 4.46%. وهو ما يدفعنا إلى استنتاج ثانٍ نقول فيه إنّ كاتِبًا متمكّنًا من اللغة وله اسم عربيّ ويمتهنُ الأدبَ وله اطّلاع بما يُنشر إذا قرر "سرقة" أثرٍ أدبيّ مَّا فلا نخالَه يُغيِّرُ منه نسبةً ضئيلةً جدّا كالتى أشرنا إليها ويتجرّأ على إخراجه للنّاسِ.
* فى الأعمال القوليّة الواردة بالمراسلات التى اطّلعنا عليها
كتب إبراهيم الدرغوثى يوم 13 أكتوبر بعد نشره للقصتيْن ما يلي: "لم أكتشف السرقة بنفسى وإنما كان الاكتشاف من طرف قارئ مغربى هو: السيد صالح الشتيوى اتصل بى عن طريق البريد الألكترونى معربا عن حيرته متسائلا عن كنت كتبت نصا تدور أحداثه فى قطار طنجة" فإقرار الدرغوثى بأنّ الذى اكتشف "السرقة" هو "قارئ" مغربيّ يشى بأمْرَيْن: أوّلهما أنّ فعل السرقة قد وجد صدقيتَه فى ذهن الدرغوثى رغم ما صرّح به يوم 12 من الشهر ذاته لحسونة المصباحى من تفهّمه بأنّ ثمة مَنْ اختلق هذه الفعلة لا بل لعنه. وثانيهما هو أنّ فى اختيار صفة "القارئ" لهذا المغربيّ فعلاً لغويًّا غير متعمَّدٍ يجعل المتتبّع للأمرِ لا يسأل عن ماهية هذا القارئ، فلو كتب مثلاً "الكاتب" لعرفنا الشخص من كتاباتِه، ثم إنّا اتصلنا بأحد أعضاء اتحاد كتّاب المغرب، وكذا بالقاص والإعلاميّ عبد الله المتقى وسألناهما عن وجود مثل هذا الأسم بالساحة الثقافية المغربية فنفيَا تمامًا وجودَه، كما أنا بحثنا عن هذا الاسم فى "غوغل" فلم نعثر سوى على اسم لجامع بمدينة نجران السعوديّة، ثمّ هل يصل الحال بقارئ عربيّ فى مكان مّا من هذه التركة الجغرافية فى زمن انعدام فعلِ القراءة فيها أن ينتبه إلى وجود هكذا تشابُهٍ بين قصّة حاضرةٍ بين يديه وأخرى مترسِّبة فى خيالِه لا يدرى أكتبها الدرغوثى أم لا؟
وإنّ تحليلاً بسيطًا للرسالة الأولى التى أعلمَ فيها القارئ الموهوم صالح الشتيوى إبراهيم الدرغوثى بوجود سرقة أرسلها إليه يوم 27 سبتمبر 2008 جاء فيها "المبدع الكبير سى ابراهيم، تحيّة الكتابة، وبعد أسأل سيادتكم عمّا إذا كانت لكم قصّة تدور حوادثها فى قطار طنجة بطلتها طالبة، ذلك أنّى طالعت ما يشبهها للكاتب حسونة المصباحي. وقد اختلط عليّ الأمر.أنا شبه واثق من أنى قرأت لكم شيئا كهذا، ولكن بالعودة إلى مؤلفاتكم لم أجد هذه القصّة.وحتّى لا أظلم أحدا أتمنّى أن تجيبونى على سؤالي. ولكم جزيل الشكر صالح الشتيوي" ويُضيف "والله هى نفس القصة تقريبا بقلم الكاتب حسونة المصباحى ، قرأتها فى العرب على ما أظن.هل يعقل هذا؟ حضرتك متأكّد أنّ قصتك غير منشورة؟".
يجوِّزُ لنا الخلوص إلى مجموعة استنتاجات منها أنّ هذا الـ "صالح الشتيوي" قد مهد لرسالته بلفظة "سى إبراهيم" وهذه الـ "سي" لفظة عامية تونسيّة تُفيد "السيد" على غرار "لفظة "سيدي" بالمغرب و"ولد سيدي" بموريتانيا و"أستاذ" ببعض الأقطار المشرقية، وهو يبدو متردِّدًا بين يقينه بوجود قصّة لإبراهيم الدرغوثى "تدور أحداثها فى قطار طنجة" وبين شكّه فى ذلك بالعودة إلى كتابات الدرغوثى "وهى غير موجودة بالمغرب، وكذا بالشبكة العنكبوتية إلاّ القليل القليل منها فى شكل قصص قصيرة" ثمّ يعود إلى تأكيد يقينه من جديد على حدّ ما جاء برسالته التى أشرنا إليها سابِقًا. وقد ردّ السيد إبراهيم الدرغوثى عن تساؤل "أخيه" الشتيوى بعد نصف ساعة بالضبط من نفس اليوم مُحيلاً إيّاه على عدد من مجلّة "الحياة الثقافية" الذى ظهرت فيه قصّتُه.
استعذاب...وعذاب
إنّنا، ولمعرفتنا بإبراهيم الدرغوثي، ننزّهُه عن أن يكون طرَفًا فى ما حصل، ولكنّا نلوم فيه أمورًا منها أنّه أظهر تواطُؤًا مع بعض الذين أشعلوا الفتيل بينه وبين المصباحي، فراح يتقبّل رسائل "التضامن" وكأنّه نُكِبَ بزلزالٍ، والحالُ أنّ لباقتَه التى نعرفُ فيه كانت تمنحه القدرةَ على إشهار تبرُّئه من الذين حاكوا هذه الألعوبة فى شكل بيانٍ ينشره بمنبر إعلاميّ حفاظًا منه على سمعة الكاتب التونسيّ. كما كان بإمكانه أن يكفّ عن "استعذاب" ما فى الرسائل التى ترد على بريده الألكترونيّ من مدحٍ وشكرٍ نافِقَيْن ويرسل إلى هؤلاء رسالة موحدة يُطالِبُهم فيها بإغلاق هذا الملف حتى لا يزيد من "عذاب" كاتب تونسيّ قد نختلف معه سلوكًا ورؤيةً للأشياء ولكنّا لا نقدر على نفى الأدبية عن نَتاجاتِه التى قرأنا.
فى المُحصِّلةِ
فى الختام نقول إنّ مقالتنا لا تسعى إلى الدِّفاع عن هذا الشخص أو تروم الحطَّ من شأن آخر، بل هى تتغيَّا البحثَ عمّا فى اللغة من حقيقةٍ حاولنا وضع بعضِ ملامحها أمام القارئ لنترك له أمرَ تأويلِها دون أشراطٍ مُمْلاةٍ منّا. وقد شجّعنا على هذا أمرٌ واحدٌ وحيدٌ لا يعتوِرُنا شكٌّ فيه البتّةَ وهو أنّ ساحتنا الثقافية التونسيّة، وبخاصة منها مجال الكتابة، أرقى من أن تؤثِّرَ فيها مثلُ هذه التُّهم، وهى تتوفّر على أسماءٍ إبداعية لامعةٍ لها حضورُها المحليّ والقوميّ والعالميّ أمثال حسونة المصباحى وإبراهيم الدرغوثى وغيرهما، وعليه، نرى من الضروريّ بالنسبة إلى الكاتبيْن أن يخرجا إلى الناس بتنويه ثنائيّ يتبرّآن فيه من الذين حاكوا هذه "الإشاعة" ويظلاّن بذلك سامقيْن عند قُرّائهما وعظيمَيْن فى تاريخ الإبداع التونسيّ.