السرعة: إنها الظاهرة التي تجعل المتسابق ينطلق من الصفر إلى 275 كيلومتراً في الساعة في اقل من 10 ثوان. هذا تماما ما يحدث عندما يرتفع مكوك فضائي إلى سرعة مدارية 28 ألف كيلومتر في الساعة بعد 8 دقائق على انطلاقه. لكن أهم تسارع يكمن في نسبة تقدم التحول التكنولوجي.
لقد احتاجت البشرية إلى أكثر من مليوني عام لاختراع العجلات و5 آلاف عام إضافية فقط لإدارة تلك العجلات بمحرك بخاري.
ان أول أجهزة العقول الالكترونية انتشرت انتشارا واسعا, واستغرق الأمر 35 عاما لجعل هذه الأجهزة تتلاءم مع طاولة المكتب. وخلال فترة كبيرة من القرن الماضي, كان البريد والهاتف الوسيلتين الأساسيتين للاتصالات. اما اليوم فان أجهزة الفاكس والبريد الصوتي والبريد الالكتروني انتشر استخدامها في اقل من 10 سنين, لكن السؤال: ما الذي سوف تقدمه لنا التكنولوجيا الحديثة خلال العقد المقبل, بعد ان دخلت البشرية في فضاء الألفية الثالثة. التغيرات تحدث بسرعة إلى درجة ان بعض أهم التكنولوجيات في هذا القرن ربما كانت مجرد مخطط على لوحة رسم بيانية او فكرة غامضة في عقل نابغة. هذا التحقيق يضيء على تقنيات يؤمل ان يكون لها الأثر الكبير في تحول المجتمعات.
حظي موضوع العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا بالاهتمام منذ بدايات القرن العشرين, خاصة من قبل صناع الدراما €من روائيين وسينمائيين€ الذين طالما شغل تفكيرهم ما سيجلبه التطور التكنولوجي من اثر في حياة البشر. فرأينا أفلاما كثيرة ترصد وتتنبأ, منها فيلم «حتى نهاية العالم», وفيه يدمن البشر نوعا من التكنولوجيا تستطيع عرض أحلامهم وكأنها أفلام فيديو, ثم كانت ثلاثية أفلام «الماتريكس» للأخوين ووتشوفسكي اللذين يرسمان المستقبل وكأنه لعبة «واقع افتراضي» والبشر جميعا مدمجون فيها.
لا يعني هذا الكلام ان العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا هي موضوع درامي فحسب, بل حظيت باهتمام الكثير من الأكاديميين الذين رأوا اننا طوال الأعوام الخمسين المنصرمة كنا نعتبر التكنولوجيا مجرد عامل تأثير خارجي, وقد استعملناها جميعا كسيارات وطائرات وحواسب وهواتف نقالة, لكن ثمة تحول كبير وجدير بالملاحظة حدث في الأعوام القليلة الأخيرة, فالتكنولوجيا التي كنا نشكلها دائما, صارت تشكلنا!
وأصبحت هذه التكنولوجيا تحدد إلى حد بعيد معنى ان نكون بشرا.
في الثمانينيات كان التعامل مع الحاسوب مقصورا على مهندسي الحاسوب, اما الآن, فاننا جميعا نتعامل مع الحاسوب, الأطباء والمهندسون والقضاة ورجال الأعمال, بل ان تطبيقات الكمبيوتر في بعض المجالات صارت تؤثر في طريقة نظر أصحابه اليه, فصارت تؤثر في طريقة تصور المعماري للأشكال المعمارية وللمباني نفسها, وعلى رؤية الجراحين للجسم البشري ولطرق اجراء الجراحة. وهذا على وجه التحديد دفع بالكثيرين إلى معرفة كيف تؤثر التكنولوجيا التي صنعتها أيدينا في طريقة تفكيرنا وتشكيل رؤيتنا؟
ولعل هذا يضعف الفكرة السائدة التي تقول باننا يجب الا نقلق بخصوص اثر التكنولوجيا, لأنها ليست أكثر من أداة, فالواقع يرينا ان التكنولوجيا صارت كيانا مؤثرا في حد ذاته.
ولنأخذ مثالا آخر, برنامج «باور بوينت» صنعته مايكروسوفت أساسا كأداة للعرض والتقديم في مجال الأعمال, لكن هذا التطبيق صار أكثر الوسائل التعليمة انتشارا, وقد وصل الى هذه المرحلة من الشيوع نتيجة الطريقة المبتكرة التي يقدمها في ترتيب الأفكار في نقاط يسهل تدوينها واسترجاعها بالذاكرة.
لكن ثمة آثاراً سلبية لهذا البرنامج إذا أمعنا النظر قليلا, فاستعمال باور بوينت يحبس الأفكار في نقاط محددة وأشكال صارمة وهو ما يعطي صورة زائفة عن طبيعة بزوغ الأفكار, واهمها التلقائية والتكوين المتأني.
وهكذا يرى الخبراء انه يجب ان نوجه انتباهنا لكيفية استعمالنا للتكنولوجيا, حتى نحصل منها على ما نريد, بدلا من ان ترسخ هي فينا ما لا نريد. فإذا كان برنامج ببساطة باور بوينت يثير إشكالية تغيير عادات العقل في التفكير, فما بالك بموضوعات أكثر صعوبة مثل إحلال الروبوت محل الإنسان €كجليس للأطفال أو المسنين مثلا€.
ولذلك يرى بعض المتخصصين اننا لم نصبح مؤهلين بما يكفي لاستقبال الآثار النفسية لما تصنعه أيدينا من تكنولوجيا, فنحن نصنع أشياء تكنولوجية, وفيها يكمن المكون الوجداني, ثم بعد ذلك نتجاهل هذا المكون قائلين ان التكنولوجيا ليست إلا أداة.
عندما عرض فيلم «الذكاء الاصطناعي» لستيفن سبيلبرغ, وفيه يتم برمجة روبوت على شكل طفل واسمه دايفيد, على حب أمه بالتبني, ثارت أسئلة من قبيل: مثل هذه التكنولوجيا قابلة للصنع فعلا؟ ومتى ينتظر ان تظهر للوجود؟ لكن هذه الأسئلة انشغلت بشكل وإمكانات تكنولوجية المستقبل وغضت الطرف عن السؤال الاكثر اهمية وهو: كيف سيكون شكلنا وإمكاناتنا نحن البشر؟
اننا نصنع التكنولوجيا خصوصا الروبوتات, بمحاكاة للشكل البشري, وهو ما يسهل إمكان الارتباط العاطفي بينها وبين البشر, وعلى اثر هذا فإننا نجعل من أنفسنا عرضة للأثر السلبي لهذه الصلة العاطفية.
عندما درس احد الخبراء المتخصصين بعلم النفس كيفية تفاعل الأطفال مع الروبوت البسيط «فيربي» الذي يستطيع ان يركز عينيه في عيني من ينظر إليه, وان يميل إليه, وجد أن الأطفال يتعاملون مع الروبوت باعتباره كيانا «حاسا», ولعل هذا طبيعي, باعتبار أن حركات هذا الروبوت لا تصدر الا عن البشر. أما المثير للدهشة فقد كان عندما سأل الأطفال إن كان «فيربي» كائنا حيا, وكانت الإجابة بنسبة كبيرة هي نعم! وهذا يعني ان الأطفال نظروا إليه, ليس باعتبار إمكاناته كآلة تكنولوجية, وإنما باعتبار ما يمثل لهم, وما يشعرون تجاهه.
ورغم ان علماء الروبوت يقولون انهم لم ينجحوا بعد في ابتكار روبوتات واعية, الا انهم يستاؤون اذا «أسيئت معاملة» روبوتاتهم واعتبرت مجرد آلات! لقد سبق لبعض مالكي الروبوتات ان أعلن انه يفضل ان يغلقها عند المساء من دون ان يقولوا لرفاقهم من الروبوتات: تصبحون على خير. لكن بدلا من البحث عن المسؤولية الأخلاقية تجاه الآلات, أظن اننا نحتاج الى ترسيم الحدود بين متى يكون الروبوت €وغيره من التقنيات الحديثة€ مجرد وسائل مساعدة, ومتى نعتبرها كيانات حاسة.
لقد طور معهد ماساتشوستس بالفعل الآلات التي تقيّم الحالة الانفعالية للشخص, وأصبح لدى هذا المعهد جهاز يقيس الجلد والحرارة ومعدل اتساع حدقة العين لمديرة تسويق شركة مثلا, بصورة دقيقة وعملية, بعدها يمكن ان ينصح الجهاز هذه المديرة: «سارة, انك مشدودة عصبيا هذا الصباح. ليس في صالحك ولا في صالح الشركة ان تقومي بمهمة €س€, لماذا لا تقومين بالمهمة €ص€؟», هذه التقنيات سوف تنتشر سريعا في عالم الأعمال, لأنها تقلل من احتمال اتخاذ قرارات خاطئة, أو في ظروف نفسية غير ملائمة, واذا كان البشر يستطيعون ان يخفوا حالاتهم المزاجية عن أقرانهم, لكن مع آلات القياس, فالأمر صعب حقا.
لذلك ربما علينا ان نبدأ اولا في تحديد اي المهام يستطيع البشر ان يقوموا بها بصورة أفضل وأيها يحسن ان تقوم بها الآلة. فإذا تحدثنا عن التدريب مثلا, فان الآلة تفوق البشر في بعض الأنشطة التدريبية مثل تقديم المعلومات, ولكن من جهة أخرى, فان البشر أفضل في الإرشاد والتوجيه والتشجيع وبناء العلاقات. ذلك لاننا نتعرف اكثر الى ذواتنا كلما امعنا النظر في الادوار التي تناسب الآلة وتلك التي لا تناسبها, رغم ان الأدوار المناسبة للتكنولوجيا لم تحسم بعد, فالبعض سوف يقول ان فصل الموظف من خلال الروبوت هو فظاظة واهانة, والبعض سيرى في هذا التصرف حفظا لماء متعجبا: «كيف يصنع الإنسان «فكرا الكترونيا» وهو لا يملك مجرد نظرية من النظريات لفهم طبيعة تكوين الفكر البشري»؟